الموقع الرسمي للدكتور اسلام عنان

د. إسلام عنان يكتب: هل تتفاقم المشاكل الصحية بسبب التغير المناخي؟

شارك الدكتور إسلام عنان، الرئيس التنفيذي لشركة أكسيت للأبحاث الدوائية والصحية، مع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، بدراسة منهجية عن المشاكل الصحية المترتبة على التغير المناخي تحت عنوان هل تتفاقم المشاكل الصحية بسبب التغير المناخي، ونشرت في عدد يناير 2024 .. وكان نص المشاركة كالتالي:

هل لاحظتَ مؤخراً زيَادةً في الأيام الحارة وانحسار للشتاء؟ هل شعرتَ بتزايدِ حِدَة الفيضانات والجفاف؟ إذا كانت إجابتكَ “نعم”، فأنتَ لستَ وحدَك. ففي السنوات الأخيرة، برز خطرٌ يهدّدُ صحتَنا وسلامتَنا جميعاً: تغيُّرُ المناخ.

لم يعد الحديث عن تأثير تغير المناخ على صحة الإنسان ترفًا فكرياً للمهتمين وحسب، بل حقيقة واقعة يواجها خبراء الصحة العامة بقلق بالغ. فارتفاع حرارة الأرض بوتيرة تفوق معدلاتها التاريخية لم يعد مجرّد رقم يتصدر عناوين الصحف والتقارير العلمية، بل انعكاسٌ حيوي يُحدث اضطراباً عميقاً في النسق البيئي، ويضع أُطر التنبؤ الصحي أمام تحديات استثنائية…

حدث التغير المناخي البشري المنشأ نتيجة للأنشطة البشرية التي تطلق غازات الاحتباس الحراري إلى الغلاف الجوي مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة مثل حرق الوقود الأحفوري، كالفحم والنفط والغاز الطبيعي، الذي يطلق ثاني أكسيد الكربون،

وايضاً قطع الغابات، والأنشطة الصناعية، مثل إنتاج الأسمنت والحديد والصلب، مما أدى لارتفاع درجات الحرارة، وأدى إلى ذوبان الجليد وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حدة الظواهر الجوية القاسية، مثل العواصف والفيضانات والجفاف، وتغير أنماط هطول الأمطار، مما ادى إلى الجفاف والفيضانات في بعض المناطق وتغير أنظمة بيئية بالكامل.

ورث البشر كوكب الأرض من 300 ألف عام من عمر الأرض الذي يقدر ب4.5 مليار عام أي ان عمر الانسان فقط (0.007%) من عمر الأرض ولكن ما فعله البشر بكوكب الأرض يهدد الحياه كما نعرفها وللأسف قد ينبأ بفناء البشر اذا استمرينا في سياستنا بعدم احترام موارد الكوكب والتغيير المستمر في مناخه وسوف يضع كوكبنا في مرحلةً حرجةً يتصاعد فيها تأثير تغير المناخ على صحة الإنسان بصورةٍ لم يعهدها العالم منذ ما يزيد عن 100 ألف عام. فلقد شهد كوكبنا ارتفاعاً ملحوظاً في درجة حرارته عن المعدل الطبيعي بمقدار 0.8 درجة مئوية بين عامي 1990 و2020 وهو أمر قد يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، ولكنه يحمل في طياته تبعات خطيرة على صحتنا، فتم تسجيل أعلى درجات حرارة عالمية على الإطلاق في جميع القارات خلال عام 2022 وزادت المساحة العالمية للأراضي المتضررة بالجفاف الشديد إلى 47% في الفترة 2013-2022 ، مما يعرض الأمن المائي والصحي وإنتاج الغذاء للخطر. وارتبط تزايد موجات الحر والجفاف في عام 2021 بزيادة 127 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد أو الشديد مقارنة بعام 1981-2010، مما يعرض الملايين لخطر سوء التغذية والآثار الصحية التي قد لا يمكن علاجها كتداعيات الانيميا والتقزم وامراض سوء التغذية.

هذه الزيادة الصغيرة نسبياً احدثت اختلالات كبيرة في نظامنا المناخي وعواقب وخيمة على صحة الإنسان فعلى سبيل المثال وليس الحصر:

موجات الحرارة المرتبطة بتغير المناخ تسببت في 226 ألف حالة وفاة إضافية على مستوى العالم بين عامي 2000 و2019 بسبب انتشار أمراض مثل ضربة الشمس والإرهاق الحر ومشاكل الجهاز التنفسي.

تقدر منظمة الصحة العالمية أن 7 ملايين حالة وفاة مبكرة على مستوى العالم في عام 2019 كانت ناتجة عن تلوث الهواء المحيط بسبب زيادة مشاكل الجهاز التنفسي مثل الربو ومرض الانسداد الرئوي المزمن.

زيادة خطر الإصابة بأمراض منقولة بالماء مثل الإسهال والكوليرا والتيفوئيد بسبب الفيضانات المتزايدة والأحداث المناخية القاسية المرتبطة بتغير المناخ التي أدت الى تلوث مصادر المياه وتعطل أنظمة الصرف.

زيادة الإصابة بالأمراض المرتبطة بالنواقل مثل الناموس الذي يهاجر الى أماكن أصبحت مناسبة لمعيشته لم تكن كذلك في الماضي بسبب الاحتباس الحراري فزادت معدلات حمى الضنك حتى أصبح نصف سكان كوكب الأرض معرض للإصابة به وارتفع هذا المعدل بنسبة 28% مقارنة بعقود الخمسينات. وايضاً يحدث هجرة للناموس الناقل للملاريا لاماكن جديدة حيث ارتفعت مساحة الأراضي المناسبة لانتقال طفيلي الملاريا بنسبة تصل ل17% بين عامي 1951 و2022.

يؤثر تغير المناخ على المحاصيل الزراعية والأمن الغذائي، خاصة في المناطق المعرضة للخطر. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى سوء التغذية ونقص التغذية، مما يعرض الجهاز المناعي للضعف ويجعل الأفراد أكثر عرضة للإصابة بالعدوى.

ان ارتفاع درجات الحرارة يرتبط بزيادة حالات الانتحار بمعدل 1.7٪ أعلى لكل درجة مئوية واحدة زيادة في متوسط درجة الحرارة اليومية، وزيادة معدلات الذهاب إلى المستشفى لعلاج الأمراض العقلية بنسبة 9.7٪ أعلى خلال موجة الحر.

لا تؤثر هذه التداعيات الصحية المباشرة وحدها، بل تتفاقم الخسائر الاقتصادية المرتبطة بالاحتباس الحراري فقد زادت الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الظواهر الجوية القاسية بنسبة 23% لتصل إلى 264 مليار دولار في عام 2022 وحده، بينما أدى التعرض للحرارة إلى خسائر عالمية في الدخل تبلغ 863 مليار دولار. وللأسف أن هذه التأثيرات غير متوزعة بالتساوي، حيث تتحمل الفئات السكانية الضعيفة، مثل الأطفال وكبار السن والمجتمعات في البلدان النامية، العبء الأكبر برغم ان الدول الصناعية الكبرى تتصدر قائمة الانبعاثات الكربونية.

للأسف نحن مستمرون في العد التنازلي لتداعيات التغير المناخي فلم يتبدل الوضع بعد جائحة كوفيد-19 كما هو واضح فماذا لو زادت درجة حرارة الأرض درجة واحدة أخرى فوق المعدل؟

يتوقع العلماء ان لم نتوصل لحل جزري سوف يصبح الكوكب مختلفاً كلياُ بعد ثلاثين عاماً أخرى فبسبب الاحتباس الحراري العالمي:

– تتزايد احتمالية تضاعف حالات الملاريا وحمى الضنك في أفريقيا بحلول عام 2050، وتصبح ثلاثة أضعاف بحلول عام 2080، وفقًا لأحدث تقرير مناخي للأمم المتحدة. كما يتوقع التقرير نفسه زيادة مقلقة تصل إلى 134 مليون شخص معرضين لخطر الإصابة بالملاريا في جنوب آسيا بحلول عام 2030, قد يتعرض 8.4 مليار شخص، أي ما يقرب من 90% من سكان العالم المتوقعين، للملاريا أو حمى الضنك بحلول عام 2080. وتتنبأ الدراسة كذلك بإمكانية حدوث “تحول شمالي” لمناطق انتشار الملاريا وحمى الضنك، مما يعرض حتى أمريكا الشمالية للخطر التي ليست حالياً بيئة صالحة للناموس الناقل لهذه الفيروسات.

– بين عامي 2030 و2050، يتوقع أن يتسبب تغير المناخ في حدوث حوالي 250 ألف حالة وفاة إضافية سنويًا، وذلك بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري فحسب.

– كما تُقدّر التكاليف المباشرة للضرر الصحي الناتج من التغير المناخي بمبلغ يتراوح بين 2 و4 مليار دولار أمريكي سنويًا بحلول عام 2030.

اذاً هل يمكن وقف او تقليل العد التنازلي لهذا الضرر؟

الإجابة نعم فنحن لم نصل بعد لنقطة اللا رجعة، ولكننا نقترب منها بوتيرة سريعة فبعد اتفاق باريس للمناخ عام 2015 باتفاق 193 دولة بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي إلى لحد من زيادة درجة الحرارة العالمية في هذا القرن إلى درجتين مئويتين مع السعي إلى الحد من الزيادة إلى 1.5 درجة مما يتطلب الوصول الى ذروة انبعاثات غازات الدفيئة في قبل 2025 وتقل الى النصف في 2050. ولكن للأسف تجاوز متوسط درجة الحرارة العالمية مؤقتًا عتبة 1.5 درجة مئوية في شهر يوليو 2023 وكان الأكثر الشهور سخونة على الإطلاق ومنتظر ان تهد 2024 ارقام قياسية في ارتفاع درجات الحرارة فكما وصف تقرير “متحدون في العلوم” لعام 2021، ان “لا توجد أي علامة على أن العالم سيصبح أكثر اخضرارا”.

يبدو جلياً ان التغير المناخي يؤثر على كافة نواحي الحياة الصحية اولاً واقتصادياً وسياسياً ثانياً… هذا العد التنازلي يجب ان يقف او على الأقل يتم وضع سياسات لتقليل وتيرته واتخاذ إجراءات عاجلة وهذا ما تم طرحه في مؤتمر المناخ كوب 27 عام 2022 في جمهورية مصر العربية الذي اعتمد في توصياته على أربع محاور أساسية وهي تمويل العمل المناخي، التكيف مع تغير المناخ، الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، ورفع الوعي بتغير المناخ. واعقبها في 2023 مؤتمر المناخ كوب 28 في الامارات العربية المتحدة بتوصيات مشابهة تربط بين الصحة والمناخ ومنها وضع استجابة شاملة للآثار النفسية والاجتماعية لتغير المناخ، مكافحة عدم المساواة وتعزيز أهداف التنمية المستدامة، تقليل انبعاثات والهدر في قطاع الصحة، تعزيز البحث والتعاون متعدد القطاعات ومتابعة التقدم، تعزيز الاستثمارات في المناخ والصحة، تعزيز التمويل من خلال التعاون والاستفادة من الخبرات، تحسين جهود الرصد والشفافية وتقييم تمويل المناخ.

إذا ارادنا ان نضع حد لخفض تأثير تغير المناخ على الصحة فيجب ان نضع خطة عمل متكاملة على المستويين الدولي والمحلي:

على المستوى الدولي:

التعاون والتنسيق: تعزيز التعاون الدولي بين المنظمات الصحية والحكومات والمجتمع المدني لمشاركة المعرفة ووضع سياسات منسقة للصحة وتغير المناخ.

الدعم المالي: تدفق التمويل من الدول المتقدمة للدول النامية لبناء أنظمة صحية مرنة قادرة على التكيف مع آثار تغير المناخ.

البحث والتطوير: تشجيع الأبحاث المشتركة لتطوير تقنيات جديدة للوقاية من الأمراض المتعلقة بتغير المناخ وعلاجها، مع التركيز على الحلول الملائمة للبلدان النامية وعمل مسابقات سنوية للمشاريع التي تحسن من الوضع البيئي.

نقل المعرفة: إقامة برامج لتدريب العاملين الصحيين في البلدان النامية على التعامل مع الأمراض والتحديات الصحية الناجمة عن تغير المناخ.

على مستوى الدول:

السياسات والاستراتيجيات: وضع سياسات وطنية واستراتيجيات صحية تأخذ بعين الاعتبار مخاطر تغير المناخ وتضمن تأهب قطاع الصحة لمواجهتها وتقدم حوافز للمشاريع الصديقة للبيئة سواء بتسهيلات في الأنشاء او الاعفاء الضريبي الجزئي على سبيل المثال تجربة جمهورية مصر العربية فعلى الرغم من ان انبعاثات مصر تمثل 0.6% فقط من الانبعاثات العالمية الا انها وضعت إطار استراتيجية تنمية منخفضة الانبعاثات حتى 2030 ووضعت استراتيجية الطاقة المستدامة 2025 وإصدار السندات الخضراء بقيمة 750 مليون دولار وهي سياسيات واستراتيجيات تهدف لإدماج البعد البيئي بنسب معينة في مشروعات الدولة في فترة 4 سنوات .

بنية تحتية مرنة: الاستثمار في بنية تحتية صحية قادرة على تحمل الظروف المناخية القاسية مثل الفيضانات والعواصف الشديدة.

نظام الإنذار المبكر: تطوير نظام إنذار مبكر بالأمراض والتحديات الصحية المرتبطة بتغير المناخ لضمان الاستجابة السريعة والفعالة. مثل مراقبة هجرة وتحرك الناموس الناقل للأمراض وفحص المجاري المائية باستمرار.

التعليم والتوعية: نشر الوعي بين العامة حول العلاقة بين تغير المناخ والصحة وتعزيز السلوكيات الصحية الصديقة للبيئة ودعم المناهج الدراسية لإنشاء جيل قادر على الحفاظ على كوكب الأرض بطريقه أفضل منّا واسلافنا.

برامج تحسين نوعية الهواء: تنفيذ برامج لخفض تلوث الهواء في المدن الكبرى، حيث يرتبط تلوث الهواء بالأمراض التنفسية وأمراض القلب والسكتة الدماغية.

مشاريع تأمين مصادر المياه النقية: الاستثمار في مشاريع تأمين مصادر مياه صالحة للشرب وتحسين إدارة مصادر المياه لمواجهة خطر تلوث المياه والجفاف الذي يؤدي لأمراض سارية وغير سارية.

برامج التغذية الصحية المستدامة: دعم الزراعة المستدامة وتشجيع إنتاج واستهلاك الأغذية الصحية التي تقلل من انبعاثات غازات الدفيئة وتضمن الأمن الغذائي.

برامج الوقاية من الأمراض: تعزيز برامج الوقاية من الأمراض المعدية التي قد تنتشر بسبب ارتفاع درجة الحرارة وتغير أنماط الطقس.

تشجيع إقامة المستشفيات الخضراء ووضع خطة لإحلال جميع أماكن تقديم الخدمة الصحية بآخري صديقة للبيئة عن طريق:

استخدام الطاقة المتجددة: زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتقليل الانبعاثات الكربونية من المستشفيات.

كفاءة استخدام الطاقة: تحسين كفاءة استخدام الطاقة في المباني الطبية من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة وعزل المباني جيدًا.

إدارة النفايات الطبية: اعتماد ممارسات مستدامة لإدارة النفايات الطبية مثل إعادة التدوير والتخلص الآمن منها لتقليل تلوث البيئة.

التصميم البيئي: تصميم المستشفيات الجديدة بما يتوافق مع مبادئ العمارة المستدامة وتقليل أثرها البيئي.

التخطيط العمراني: التخطيط للمدن بطريقة مراعية للبيئة للحد من الآثار الصحية السلبية لتغير المناخ مثل موجات الحر والفيضانات.

دعم الابتكار: تشجيع وتطوير حلول مبتكرة للتحديات الصحية المتعلقة بتغير المناخ، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج.

إشراك المجتمعات المحلية في وضع وتنفيذ الاستراتيجيات والحلول الخاصة بالصحة وتغير المناخ لضمان نجاحها واستدامتها.

وجدير بالذكر ان الحفاظ على البيئة واقامات مشروعات تقلل من الانبعاثات الكربونية لها ايضاً مردود اقتصادي فعلى سبيل المثال في دراسة مصرية نشرت في 2020 ان إقامة مستشفى خضراء بنظام DOAS (أنظمة الهواء الخارجية المخصصة) للتحكم الذاتي في درجة الحرارة والرطوبة والتأثير على نظام التدفئة والتهوية وتكييف الهواء، أدى الى توفير كبير في الطاقة لكل من أنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء وكهرباء المبنى بالكامل، حيث تكشف الدراسة أنه يمكن تحقيق حوالي 67٪ من توفير الطاقة وتكاليف التشغيل من خلال التحديث الفعال وتغيير حجم الأنظمة.

في الختام ان حماية صحتنا وصحة الأجيال القادمة وحماية مناخ كوكبنا مرتبطان ارتباط وثيق ويتطلبان تحركاً جماعياً فورياً ويمكن لكل فرد منا المساهمة من خلال خيارات حياتية مستدامة واخذ إجراءات حاسمة كلاً في نطاق صلاحياته لمعالجة تحدي تغير المناخ الذي يؤدي إلى تعريض المزيد من السكان لأمراض معدية وغير معدية تهدد الحياة على امل ان نترك الكوكب للأجيال القادمة في وضع أفضل مما هو الآن.

قد يعجبك ايضا