إسلام عنان يكتب.. لماذا ترتبط الحروب بالأوبئة؟
كتب الدكتور إسلام عنان، أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة بجامعة مصر الدولية، مقالا لمجلة المصور في شهر أبريل 2022، تحدث فيه عن الأسباب وراء ارتباط الحروب بالأوبئة، وتاريخ الأوبئة التي حدثت مع الحروب.
إسلام عنان
مع نهاية الحرب العالمية الأولى وحصادها لقرابة الـ 100 مليون نفس بشرية وتنفس العالم الصعداء عام 1918 كان للأسف العالم على موعد مع واحد من أسوأ الأوبئة التى واجهت البشرية.. الأنفلوانزا الإسبانية التى استمرت عامين وحصدت قرابة 50 مليون نفس بشرية.
كما تقول سارة دوجلاس «لا يمكنك فصل الحرب عن المرض». فلطالما ارتبطت الحروب بالصحة العامة والأوبئة، سواء من حيث استخدام الجيوش للحرب البيولوجية وإحداث أوبئة عمداً، أو بطريقة غير مباشرة كالأمراض والأوبئة ما بعد الحرب الناتجة من سوء الأحوال الاقتصادية والنظافة العامة أو تراكم الجثث، وأيضاً تأثر الشعوب بأمراض نفسية نتيجة الحروب، أحياناً أخرى كانت الأوبئة سبباً فى منع حرب أو إيقافها، وأخيراً ما لا نتمنى أن يحدث وهو الحروب ما بعد الوباء نتيجة الوضع الاقتصادى أو انتهاز فرصة انشغال العالم بالوضع الوبائى للقيام بحرب.
سنتحدث فى هذا المقال عن كيف ارتبطت الحروب بالأوبئة ونظرة إلى ارتباطهم تاريخيا ليجعلنا أكثر تبصرا لما يحدث الآن من وضع أمنى واقتصادى متوتر فى العالم كله أو ما يمكن أن يحدث لاحقا.
الحرب البيولوجية
لو بدأنا كلامنا عن استخدام الجيوش للحرب البيولوجية فهى قديمة قدم الحرب نفسها فأول تسجيل لحرب بيولوجية كان عام 600 ميلادية عندما استخدم القائد اليونانى سولون جذور نبات هيليوروس فى تلويث مياه النهر لتسميم أعدائه، أو عندما استخدم المغول الجثث المصابة بالطاعون كقنابل بشرية برميها على أعدائهم، ويقال إن هذا ما بدأ الطاعون الأسود الذى أودى بحياة 100 مليون شخص على الأقل فى قارة أوروبا، أو الحادثة الشهيرة عندما أهدى المحتل الأوروبى بطاطين من مستشفيات العزل لمصابين بالجدرى إلى الهنود الحمر فى الأميركتين فى القرن الخامس عشر، ويقال إن هذه الهدية المسمومة التى كان صاحب فكرتها قائد الجيش الإنجليزى أدت إلى وفاة عشرات الآلاف من السكان الأصليين.
وأيضاً فى مصر إبان الحروب الصليبية كانت الجيوش الصليبية تلقى الجثث خلف أسوار المدن لإحداث أوبئة.. لذلك تصنف الآن الحرب البيولوجية كواحدة من أسلحة الدمار الشامل، وأصبح لها تعريف معتمد وهو أى استخدام متعمد لكائنات حية، أو سموم مشتقة منها، تتسبب فى الأمراض لدى البشر أو الحيوانات، أو النباتات. وهى أيضا أرخص نوع من أسلحة الدمار الشامل بالمقارنة بالأسلحة الكيماوية أو النووية، فلا يحتاج الأمر إلا لمعمل ميكروبيولوجى ونسبياً لتمويل مالى منخفض، ومن ثم نشرها فى العالم كله بميزانية بسيطة لا تحتاج إلا لبضعة أشخاص حاملين للفيروس يسافرون بالطائرات لعدة مطارات عالمية لجعله وباء عالميا.. لذلك حاول المجتمع الدولى الحذر من الحرب البيولوجية فوقعت الدول الكبرى عام 1925 اتفاقية جنيف لمنع الأسلحة البيولوجية، وفى عام 1982 صدقت على المعاهدة 22 دولة منها مصر، وتجدر الإشارة إلى أن دولة الاحتلال رفضت التوقيع على الاتفاقية حتى تاريخه.
الوباء ومنع الحرب
أحياناً أخرى قام الوباء بدور مهم فى منع أو إيقاف الحروب، ففى عام 541 إبان الإمبراطورية البيزنطية أوقف وباء الطاعون الدبلى الامبراطور جستنيان من حرب استعادة الإمبراطورية الرومانية، وذلك عندما انتقل الوباء من ركاب سفينة محملة بالحبوب قادمة من مصر عبر البحر الأبيض المتوسط، وقدرت الخسائر البشرية بـ50 مليونا وفى بعض المصادر 100 مليون شخص وقضت على حلم الإمبراطورية الرومانية فى ذلك الوقت.
أما عن ظهور أوبئة بعد الحروب فالتاريخ مليء بالأمثلة، على سبيل المثال وليس الحصر طاعون أثينا سنة 430 ق.م. بعد حرب إسبرطه، وسنة 180 ميلادية عندما عاد الجنود إلى الإمبراطورية الرومانية من الحملات، عادوا بالطاعون الأنطوني، الذى قتل أكثر من 5 ملايين شخص فى الإمبراطورية الرومانية، وكما ذكرنا الأنفلوانزا الإسبانية بعد الحرب العالمية الأولى. أن الحروب والجنود على وجه الخصوص هم أهم حامل وناقل للأمراض والأوبئة فى التاريخ من بلد لآخر.
الأوبئة البكتيرية والفيروسية
إذا ذكرنا الأوبئة البكتيرية والفيروسية بعد الحروب يجب أن نذكر مرضا مهما وفتاكا يحدث بعد الحروب وله نسبة عالية من الوفيات؛ فإذا كانت نتيجة الحروب الأكثر وضوحاً هى إحصائيات الوفيات فإن الموت ما هو إلا قمة جبل الثلج من تداعيات الحروب، فالنتيجة الأكثر تأثيراً هى تفكك نسيج الأسرة والأمراض النفسية، فللحرب تأثير كارثى على الصحة العامة للأسرة تشمل الأذى الجسدى والنفسى طويل الأمد للأطفال والبالغين سواء من سوء تغذية نتيجة الوضع الاقتصادى والأمراض الاجتماعية والنفسية، وقدرت منظمة الصحة العالمية أنه فى حالات النزاع المسلح، 10 فى المائة من الأشخاص الذين يعانون من أحداث صادمة سوف يعانون من مشاكل نفسية خطيرة و 10 فى المائة آخرون سوف يطورون سلوكًا يعيق قدرتهم على العمل بفعالية. والأكثر شيوعًا الحالات هى الاكتئاب والقلق والمشاكل النفسية .
الأمراض النفسية
أهم الأمراض النفسية الناتجة عن الحروب، هو الاكتئاب وهو أكثر الأمراض المسببة للعجز، كما ورد فى تقرير منظمة الصحة العالمية، جدير بالذكر أنه أكثر الأمراض المسببة للعبء الاقتصادى فى العالم وحالياً يوجد 280 مليون شخص مصاب بالاكتئاب ومن أكبر مسببات الانتحار الذى يودى بحياة 700 ألف شخص كل عام.
فى دراسة أجريت على الأسر فى أفغانستان فى 2002 عن تداعيات ما بعد الحرب كانت النتيجة أن تقريباً 68 فى المائة من العينة البحثية مصابة بأعراض اكتئاب و42 فى المائة مصابون باضطراب ما بعد الصدمة. وهو مشابه لدراسة أجراها (برنامج غزة للصحة النفسية) لتداعيات النزاع فى فلسطين على الأطفال من سن 10 إلى 19 عاماً كانت النتيجة أن تقريباً 33 فى المائة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة ويحتاجون للعلاج النفسي… التداعيات النفسية بعد الحروب سجلت فى دراسات كثيرة بنتائج مقاربة بعد الحرب الأهلية فى لبنان والعراق وفلسطين وكمبوديا وفيتنام والبوسنة وأى منطقة من مناطق النزاع فى العالم.
هل سيحدث حرب بعد الوباء؟
ماذا لو عكسنا الوضع، هل سيحدث حرب بعد الوباء؟، لو حدث وباء عالمى غالباً سيحدث اختلال فى الميزان الاقتصادى العالمى ينتج عنده كساد اقتصادى ونقص فى موارد دول معينة وازدهار لدول أخرى وقد ينتج عنه توتر أمنى أو حروب، على سبيل المثال على التسلسل التفاعلى بين الوباء والاقتصاد والحروب، إبان الأنفلونزا الإسبانية 1918-1920 قدرت الوفيات بما يقدر بنحو 40 مليون شخص، أو 2.1 فى المائة من سكان العالم ، يقدر الباحثون أن البلد الواحد تأثر اقتصادياً بانخفاض الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى للفرد بنسبة 6 فى المائة وانخفاض الاستهلاك الخاص بنسبة 8 فى المائة ، ما حدث نتيجة الأنفلوانزا الإسبانية اقتصاديا مماثل للانخفاض الذى شهده الركود العظيم فى 2008-2009.
الدراسات أثبتت فى هذه الفترة أن أى بلد كان معدل وفياته من الوباء 2 فى المائة انخفض عائد المخزون الحقيقى 26 نقطة مئوية وحدث انخفاض كبير فى العوائد الحقيقية للأسهم والسندات الحكومية قصيرة الأجل. ومن هذا الاختلال الاقتصادى يولد التوتر الأمنى، فنقص الموارد والمشاكل الاقتصادية هى المحرك الأساسى لقيام الحروب وهى مثلاً العامل الساسى فى تاريخ القارة الأوروبية وقيامها بالتوسع فى إفريقيا وآسيا ومن بعدها الأميركتان وأستراليا بعد معاناة سواء وبائيا من طاعون أسود على موجات متوالية وأنفلوانزا وكوليرا مع المعاناة الاقتصادية القائمة فى أوروبا من ندرة الموارد.
بقراءة فى التاريخ وعلاقة الأوبئة بالاقتصاد ومن ثم الحروب، جعل المختصين فى مجال الاقتصاد الصحى غير مندهشين مما يحدث من تغيرات على الخريطة العالمية أثناء صراعنا مع جائحة «كوفيد – 19» حالياً… التغيرات الديموغرافية والتغير فى بنية المجتمع والتأثير الاقتصادى إلى حد الانهيار والإفلاس مثل ما نشهده فى لبنان وسيريلانكا والتوتر الأمنى كحرب روسيا وأوكرانيا كان غير مستبعد بعد كل الضرر الاقتصادى الناتج من «كوفيد – 19» الذى قدر منذ بداية الجائحة إلى الآن بـ 3 تريليونات دولار امريكى وانخفاض 4.5 فى المائة فى النمو الاقتصادى العالمي.
ولطالما طرحنا السؤال الأشهر فى جائحة كورونا… متى نصل إلى ذروة الموجة الوبائية، لكن السؤال الأهم الآن، متى نصل إلى ذروة التداعيات الاقتصادية الناتجة عن «كوفيد – 19»؟
استغلال الجائحة إيجابيا
مع الوضع فى الحسبان أن بعض البلدان استغلت الجائحة إيجابيا وحققت نموا أعلى من خطتها الاقتصادية، على المستوى العالمى رفع صندوق النقد الدولى مؤخرًا توقعاته للنمو الاقتصادى فى عام 2021 إلى 6 فى المائة، ارتفاعًا من 5.5 فى المائة ، ويتوقع نموًا بنسبة 4.4 فى المائة فى عام 2022. طبعا التوقعات مبنية على مدى استمرار السيطرة على الوباء، وفعالية السياسات المالية فى التخفيف من الأضرار الاقتصادية والظروف المالية العالمية، لذلك من المتوقع إن لم تحدث أى تطورات جديدة سواء حروبا أو مشاكل وبائية أن يستعيد الاقتصاد العالمى عافيته فى غضون سنتين إلى 4 سنوات، ولكن مع تغيير فى الخريطة الاقتصادية العالمية وتغير فى اللاعبين الأساسيين فى العالم الاقتصادى.
هذا التغير فى الخريطة الاقتصادية العالمية قد يصحبه أيضا توتر أمنى، من بداية الجائحة صدرت أوراق بحثية كثيرة على احتمالية حرب باردة بين أمريكا وروسيا وتوقعات أكثر بنهاية 2021 بقيام حروب اقتصادية سواء بالتأثير على البورصات العالمية من قبل دول بعينها للسيطرة على دول أخرى أو بالشراء المباشر لشركات وقطاعات للسيطرة الاقتصادية مثل ما فعلته الصين فى دول كثيرة فى أوروبا وإفريقيا وطبعا جيرانها فى آسيا. ولكن الاحتمالات كانت نادرة للغاية لقيام حرب فعلية مثلما حدث بين روسيا وأوكرانيا لأن الحروب الاقتصادية أرخص وبدون خسائر بشرية وأكثر تأثيراً.
تفادي الحرب في المستقبل
لتفادى حرب فعلية ذات نطاق عالمى فى المستقبل القريب يجب الحفاظ على الاقتصاد العالمى، وما نتمناه حالياً هو تشريعات وسياسات دولية اقتصادية غير مسيسة تضع أطر استعادة الاقتصاد العالمى ومساعدة الدول المتضررة بدون أجندات خفية مثل ما شهدناه تاريخيا من المؤسسات الدولية، والأهم أن يكون هناك دور فعال من المجتمع الدولى للحفاظ على الاقتصاد خصوصا فى مناطق النزاع المسلح.
والأهم من ذلك ألا ننسى أن وباء «كوفيد – 19» لا يزال طليقا ولم ننتصر نهائياً عليه وأن الأولوية هى حياة الإنسان بحمايته سواء من الأوبئة أو التدهور الاقتصادى أو الحروب.