الموقع الرسمي للدكتور اسلام عنان

د. إسلام عنان يكتب: ‎هل يتسبب نظام تسعير الدواء الحالي في تأخر وصوله للمرضى؟

يتم تسعير الدواء جبريًا في معظم دول العالم ولا يوجد حرية للمصنعين لرفع السعر إلا بعد موافقات معقده ويتم التسعير في معظم الدول بمقارنة السعر عند تقديم ملف التسجيل بسعر نفس الدواء في دول أخرى تحددها هي في قائمة الدول المرجعية للدولة مما يعرف بنظام التسعير المرجعي (Reference Pricing) ومن ثم تشترط أن يتم التسعير مقارنة بباقي الدول في القائمة، فمثلًا تقوم مصر بمقارنة السعر مع على الأقل خمس دول مرجعية (من جدول يحتوي على أكثر من 36 دولة تعتبرها مصر مرجعا لها سواء لمقاربتها في المستوى الاقتصادي أو في حجم السوق) وتشترط أن يتم التسعير في السوق المصري بـ١٠٪؜ أقل من أقل سعر معلن في الدول المرجعية لمصر، مما جعل سعر الدواء في مصر من الأرخص عالميًا ولكن، هل يؤثر ذلك على تأخير تسجيل الأدوية الحديثة أو الاستدامة العلاجية؟

 

إن شركات الدواء تعلم أن معظم دول العالم والمنطقة العربية يسجلون الدواء بالتسعير المرجعي وعلى حسب المقدرة الشرائية وهم دول مرجعية فيما بينهم… فتفضل الشركات تسعير الدواء في الدول عالية الاقتصاد بأسعار مرتفعة أولًا ومن ثم متوسطة الاقتصاد بأسعار أقل حتى الوصول إلى الدول متوسطة إلى منخفضة الاقتصاد وبالتالي يؤخرون دولا مثل مصر والهند إلى آخر القائمة حتى يتسنى لهم تقديم سعر يناسب المقدرة الشرائية ولا يؤثر على التسعير في الدول الأخرى التي تتخذ سعر مصر مرجعيًا لها مما يؤخر نزول الدواء في مصر إلى عدة سنوات في بعض الأحيان.

 

تأخير الدواء عدة سنوات بإمكانه أن يؤثر بالسلب على المنظومة الصحية وعلى نفسية المرضى عند معرفتهم بإتاحة الدواء خارج مصر، وقد يكون هذا الدواء الأمل الوحيد لبعض المرضى في الشفاء وفي بعض الأحوال في الحياة، ومن سمات نظام التسعير المرجعي أيضاً انه لا يأخذ في الاعتبار القيمة العلاجية المضافة من الدواء صاحب الطلب لذلك قد يتم تسعيره أقل مما يوازي قيمته أو في أحيان قليلة أعلى من قيمته المضافة للمريض.

 

أن وضع حلول للتسعير المرجعي ليست سهلة، ويجب التفرقة عند وضع خطة عمل بين التسعير التسجيلي الذي يجب أن تقوم به أي شركة لدخول الدواء السوق المصري وذلك عبر هيئة الدواء المصرية وبذلك يكون الدواء موجوداً في الصيدليات والقطاع الخاص. والتسعير التأميني وهو السعر الذي تشتري به الحكومة الدواء بعد تسجيله في هيئة الدواء المصرية لطرحه في منافذ التأمين بالمجان أو بمقابل مادي بسيط مثل هيئة التأمين الصحي ومنظومة العلاج على نفقة الدولة والتأمين الصحي الشامل وما شابه من القطاع الحكومي وذلك عبر هيئة الشراء الموحد، يوجد أمثلة كثيرة من دول أخرى وضعت خطة متكاملة لحل هذه المعضلة مثل:

١- التسعير مقابل القيمة: أو ما يسمى بالـ (Value-Based Pricing) وهو تسعير الدواء بناءً على ما يوفره من وقت ومال مقابل الدواء المستخدم محلياً وما يضيفه إلى جودة الحياة وصحة وعمر المريض، وهو ما تنتهجه مصر حالياً للأدوية الغير ذات مرجعية (إذا كان لا يوجد تسعير معلن من دول أخرى لهذا الدواء) خصوصاً الأدوية اليتيمة التي تعالج الأمراض النادرة (orphan drugs treating rare diseases) وذلك ساعد في تسريع أدوية للسوق المصري، ولكن عددها قليل نسبياً.

٢- اتفاقيات التسعير غير المعلنة: وهو أن يتم التسعير التسجيلي بسعر عالي لا يرغم الشركات على تأخير تقديم ملف التسجيل في مصر في مقابل أن تعطي الشركة خصم بطريقة مباشرة (مثل الحصول على علبة دواء مجاناً مع كل عملية شراء لعلبة من أي منفذ شراء وبذلك يكون سعر الدواء في السوق المحلي نصف الثمن المدرج في بطاقة التسجيل) أو غير مباشرة عن طريق عدد من الخدمات يوازي قيمة الخصم الذي يستحقه الدواء في السوق المصري ويتم ذلك في اتفاقية سرية ويطرح في الأسواق الخاصة وقد يتبعه اتفاقية خصم إضافية للتسعير التأميني ولمصر عدة أمثلة ولكن قليلة نسبياً أيضا.

٣- التسعير الحر: وهو أن تترك الدولة لشركات الأدوية حرية التسعير التسجيلي وتتحكم في التسعير التأميني ويتم تسعير الدواء مثله مثل المنتجات الغذائية وذلك مثل نموذج الولايات المتحدة الأمريكية مما يجعل الشركات لا تتأخر في تقديم ملف التسجيل، ولكن لكي يتحقق هذا النموذج يجب التأكد أن مواطنين هذه الدولة لا يشترون الدواء من القطاع الخاص إلا بنسبة قليلة، وبما أن 60% من حجم سوق الدواء المصري قادم من شراء المواطنين للدواء من مالهم الخاص حسب تقرير وزارة الصحة والسكان في 2020، لذلك يجب أن يكون هناك تأمين صحي شامل للمواطنين قبل تنفيذ التسعير الحر ويكون التسعير التأميني هو السعر الحقيقي في التعامل والذي قد يصل إلى 15% أو 10% من ثمن السعر التسجيلي، مما يوضح أهمية إطلاق مصر لمشروع التأمين الصحي الشامل الذي سوف يعطي المصريين التغطية التأمينية الشاملة بحلول 2032، عيب هذا النموذج أن أي مواطن خارج التأمين الحكومي لن يستطيع بسهوله شراء الدواء مثل ما يحدث في أمريكا حالياً.

 

ويوجد حل وسط عملي يجمع كل ما سبق ويناسب السوق المصري، هو نموذج التسعير المزدوج وهو الاستمرار في التسعيرة الجبرية أيضاً، ولكن بسعر تسجيلي عالي (ولكن ليس حر) يتم نشره لباقي الدول وذلك فقط للأصناف التي يتم تغطيتها عن طريق التأمين الصحي الحكومي بأنواعه والتحكم في السعر التأميني لهذه الأدوية باتفاقيات غير معلنة. تقييم السعر التسجيلي لكل الأدوية عالية التكلفة كالأدوية البيولوجية والأدوية المناعية واليتيمة (مثلا أدوية السرطان والأمراض النادرة) بطريقة التسعير مقابل القيمة والتحكم في السعر التأميني لهذه الأدوية باتفاقيات غير معلنة مع شركات الدواء وهو ما تنتهجه حالياً العديد من دول أوروبا. أما الأصناف التي يتم بيعها بنسبة عالية في القطاع الخاص فتسعر عن طريق تسعير تسجيلي مرجعي حتى الوصول للتغطية التأمينية الشاملة، ولكن بسعر أعلى مع اتفاقيات غير معلنة للقطاع الخاص مثل الحل رقم (2). من مميزات أيضا هذا النموذج هو حل مشكلة التصدير الدوائي للدواء المحلي لأن معظم الدول تشترط الاستيراد بما يوازي السعر في دولة المنشأ فيتوانى المصنعين عن التصدير لأن سعر الدواء في مصر هو من الأقل عالمياً وغير مربح إذا تم تصديره بنفس سعره في مصر.

 

في النهاية إن الدواء سلعة استراتيجية ومن الواضح وجود علاقة عكسية بين سعر الدواء وسرعة وصوله للمريض، ولطالما كانت مصر رائدة سواء في التصنيع الدوائي أو في آليات وصوله للمريض وفي ظل عدم استقرار سعر الصرف ومطالبات الشركات مع كل تحرك لسعر الصرف بزيادة السعر سواء التسجيلي أو التأميني، يجب أن يكون هناك حلول مبتكره، بسعر صرف مرن للدواء حتى لا يحدث اضطراب في سلاسل الإمداد ونصل إلى خطة مصر الطموحة 2030 في تأمين وصول خدمة صحية بأدوية حديثة بدون تأخير وباستدامة في تقديم الخدمة لكل المقيمين في مصر بالمجان.

 

نشر هذا المقال في جريدة المصري اليوم خلال شهر مارس 2024

قد يعجبك ايضا